الطعن والمنطق القضائى

يقوم القاضى بإصدار الأحكام للفصل فى المنازعات التى تثور فيما بين الأفراد، وهو يقوم بذلك من خلال عدة مراحل من تكييف وتسبيب للحكم – كما سبق الذكر-، وهو فى ذلك يلجأ إلى الوسائل المنطقية من استدلال للوصول إلى النتيجة النهائية.

ورغبة من المشرع فى تحقيق العدالة وإكساب القانون صفة الإقناع من خلال التطبيق، فإن القاضى يخضع للرقابة فيما توصل إليه من نتيجة من خلال مراجعة الوسائل المنطقية، حيث ينظر فى استنباطه واستقرائه للوقائع التى أسس عليها حكمه، هذا بالإضافة إلى مراقبة استدلاله للأحكام.

وقد يعترى هذه الأساليب عيوبٌ مما يفتح مجال الطعن، وهى ما قد تتمثل فى الخطأ فى الإسناد والقصور فى البيان، هذا بالإضافة إلى الفساد فى الاستدلال.

الخطأ فى الإسناد والقصور فى البيان يلتزم القاضى فى فصله فى المنازعات أن يصدر أحكاما تتسم بالصحة وتحقق العدالة إذ أن الأحكام تعد عنوان الحقيقة، وهذا ما يستتبع تضمن الأحكام أدلة تعكس عقيدته واقتناعه، وذلك من خلال عرضه للأدلة وثبوتها فى الأسباب دون خطأ فى الإسناد أو فساد فى الاستدلال[1].

ويقصد بالخطأ فى الإسناد أن يكون تقدير القاضى للوقائع قد بنى على أسس سليمة، بحيث تعكس إجراءات سليمة للخصومة الجنائية، وهذا ما يستتبع أن تؤسس المحكمة تقديرها على أدلة من أوراق الدعوى، إذ أن مخالفة ذلك الأمر قد يؤدى بالقاضى إلى نتيجة غير واقعية أو بمعنى آخر استنتاج خاطئ، وهو ما يوصم المنطق القضائى بالعيب[1].

ومفاد ذلك أن الخطأ فى الإسناد يستلزم أن يعتد القاضى فى تأسيس حكمه على أدلة لا سند لها فى الدعوى، وهذا من شأنه أن يؤثر على عقيدة القاضى ومن ثم حكمه، أى أن يوصم الخطأ فى الإسناد بالمؤثر[2].

وقد نصت المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية على أن “يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته ومع ذلك لا يجوز له أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة. وكل قول يثبت أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأة الإكراه أو التهديد به يهدر ولا يعول عليه”.

 وقد قضى فى ذلك بأن “من المقرر وفق المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية المعدلة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 أن القاضي الجنائي يحكم في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، إلا أنه محظور عليه أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه بالجلسة، يستوي في ذلك أن يكون دليلا على الإدانة أو للبراءة، وذلك كي يتسنى للخصوم الاطلاع عليه والإدلاء برأيهم فيه – لما كان ذلك – وكان الحكم المطعون فيه قد أشار إلى أن الدعوى مرتبطة بدعوى أخرى وأحال بشأن وقائع كل منهما للأخرى لوحدة المستندات والدفاع فيها دون أن يفصح عن وقائع الدعوى الأخرى التي قال أنها مرتبطة بهذه الدعوى ولم يأمر بضم أوراقها لها حتى يتيح للمدعي بالحق المدني – الطاعن – والذي لم يكن طرفا فيها فرصة الاطلاع عليها وإبداء وجهة نظره في المستندات والدفاع التي قال الحكم أنها واحدة في الدعويين بما يعجز محكمة النقض عن مراقبة صحة تطبيق القانون بشأن ما ارتآه من قيام ارتباط بين الدعويين مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه”[1].

 ومفاد ذلك أن الخطأ هنا فى الإسناد يؤثر على المنطق القضائى من خلال التأثير على استنباط واستنتاج النتائج النهائية، أو بمعنى آخر الحكم النهائى للقاضى.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن القاضى يقع على كاهله أيضاً التحقق من كافة الأدلة المطروحة أمامه، وذلك أيا ما كان مصدرها أى سواء أكانت من الخصوم أو من جهة المتهم، إذ أن القاضى ملزم بتقدير كافة الأدلة من حيث صحتها من عدمه، أو من حيث إنتاجها من عدمه[2].

وحال مخالفة القاضى ذلك يوصم الحكم بالعيب بما يعرف بالقصور فى البيان، ويتحقق هذا العيب الموجب لطعن الحكم حال عدم بيان مضمون الأدلة التى استندت إليها المحكمة فى إصدار الحكم، كما يتحقق حال عدم مناقشة الأدلة أو عدم الرد على أوجه الدفاع الجوهرية[1].

وقد نصت المادة 311 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه ” يجب على المحكمة أن تفصل في الطلبات التي تقدم لها من الخصوم، وتبين الأسباب التي تستند إليها”.

وقد أكدت ذلك محكمة النقض فى العديد من أحكامها، إذ قضت بأنه “من المقرر وفق المادة 310 من قانون الإجراءات الجنائية أن كل حكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان كاف لمؤدى الأدلة التي استخلصت منها المحكمة ثبوت الإدانة فلا يكفي مجرد الإشارة إليها بل ينبغي سرد مضمون كل دليل بطريقة وافية يبين منها مدى تأييده للواقعة كما اقتنعت بها المحكمة ومبلغ اتفاقه مع باقي الأدلة التي أقرها الحكم حتى يتضح وجه استدلاله بها، وكان يبين من الحكم المطعون فيه أنه استند في إدانة الطاعنين بين ما استند إليه إلى المعاينة التصويرية دون أن يورد مؤدى هذه المعاينة أو يذكر عنها شيئا ليوضح وجه اتخاذها دليلا مؤديا لأدلة الإثبات الأخرى التي بينها، فإن الحكم المطعون فيه يكون قاصر البيان”[2].

ومما تجدر ملاحظته أن هذه العيوب تستتبع التأثير على استنباط واستقراء الأحكام، إذ أن المنطق القضائى يستهدف الإقناع والتعاضد والتكامل لتبيان عدالة الأحكام وصحتها، وهذا ما قد يتأثر بالقصور فى البيان.

فمن جهة أولى يلتزم القاضى بتبيان كافة الأدلة التى استند عليها، وذلك بحيث يتناول مضمونها وتفصيلاتها، وإن كان ذلك قاصرا على الأدلة المؤثرة فى الحكم، أو التى أثرت فى تكوين عقيدة القاضى واقتناعه[3].

وقد قضى تحقيقاً لذلك بأنه “حيث إنه ولئن كان الأصل أن المحكمة لا تلتزم بمتابعة المتهم في مناحي دفاعه المختلفة إلا أنه يتعين عليها أن تورد في حكمها ما يدل على أنها واجهت عناصر الدعوى وألمت بها على وجه يفصح عن أنها فطنت إليها ووازنت بينها. لما كان ذلك وكان الثابت أن الحكم المطعون فيه أيد الحكم الابتدائي بالإدانة لأسبابه – وإن أوقف تنفيذ العقوبة – دون أن يعرض لدفاع الطاعن إيراداً له ورداً عليه رغم جوهريته لاتصاله بواقعة الدعوى وتعلقه بموضوعها وبتحقيق الدليل فيها ولو أنه عنى ببحثه وتمحيصه وفحص المستندات التي ارتكز عليها بلوغاً إلى غاية الأمر فيه لجاز أن يتغير وجه الرأي في الدعوى ولكنه إذ أسقطه جملة ولم يورده على نحو يكشف عن أن المحكمة أحاطت به وأقسطته حقه فإنه يكون مشوباً بالقصور بما يبطله ويوجب نقضه[1].

 كما أنه لا يجوز للقاضى أن يحكم بالإدانة فى جريمة تقليد علامة تجارية، دون أن يبين مضمون العلامة الصحيحة والعلامة المقلدة، وتبيان التشابه فيما بينهما[2].

كما أن القاضى ملتزم ببيان العناصر الأساسية للجريمة فى حكمه، وإن كان ذلك يختلف فى الحكم بالبراءة عن الحكم بالإدانة، إذ أن الحكم بالبراءة يكفى فيه التشكك فى إسناد الفعل للمتهم، وهذا ما يستتبع عدم تطلب اليقين، وإن كان ذلك يستلزم استدلالا منطقيا سليما لصحة الوصول إلى الشك ومن ثم البراءة، وهدياً على ذلك يبين القاضى ظروف الدعوى والأدلة وأسباب التشكيك فيها[3].

وقد قضى فى ذلك بأن “الأصل – كما جرى قضاء محكمة النقض – أن المادة 310 من قانون الإجراءات الجنائية لم تشترط أن يتضمن حكم البراءة – وبالتالي ما يترتب عليه من قضاء في الدعوى المدنية – أمورا أو بيانات معينة أسوة بأحكام الإدانة, ومن ثم فإن ما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه من خلوه

من بيان فحوى المحرر المزور والأختام المقلدة والمختصين الذين نسب إليهم تزوير توقيعاتهم, يكون في غير محله”[1].

 أما من جهة الإدانة فإن المحكمة ملزمة بتبيان شروط الجريمة وأركانها من مادى ومعنوى، هذا بالإضافة لتبيان الظروف المشددة حال تحققها[2].

وهذا ما سارت عليه أحكام محكمة النقض إذ قضت بأن “من المقرر أن القانون قد أوجب في كل حكم بالإدانة أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة بيانا تتحقق به أركان الجريمة والظروف التي وقعت فيها والأدلة التي استخلصت منها المحكمة ثبوت وقوعها من المتهم، وأن تلتزم بإيراد مؤدى الأدلة التي استخلصت منها الإدانة حتى يتضح وجه استدلالها بها وسلامة مأخذها وإلا كان الحكم قاصرا. وكان المقصود من عبارة بيان الواقعة الواردة بالمادة 310 من قانون الإجراءات الجنائية هو أن يثبت قاضي الموضوع في حكمه كل الأفعال والمقاصد التي تتكون منها أركان الجريمة وما خرج عن هذه الأركان مما له شأن هام تترتب عليه نتائج قانونية كتاريخ الواقعة ومحل حدوثها والظروف المشددة للعقاب، فإن أهمل قاضي الموضوع إثبات فعل أو مقصد أو مأخذ لظرف مشدد مما يخل بركن من الأركان التي لا تقوم إلا على توافرها جميعا أو مما لا يسوغ الزيادة في العقوبة التي فرضها أو النزول بها عن حدها المقرر قانونا، وكان من حق كل ذي مصلحة الطعن في حكمه لقصوره في البيان، ولما كان البين مما أورده الحكم المطعون فيه – سواء في تحصيله لواقعة الدعوى وسرده لأدلة الثبوت فيها – أنه أغفل الإشارة كلية إلى ظرف سبق الإصرار، الأمر الذي يعجز محكمة النقض عن مراقبة صحة التطبيق القانوني على الواقعة وأن تبدي رأيها فيما تثيره الطاعنة، ومن ثم، يكون الحكم المطعون فيه معيبا بالقصور في التسبيب الذي له الصدارة على أوجه الطعن المتعلقة بمخالفة القانون بما يوجب نقضه والإعادة”[3].

هذا ويلتزم القاضى بالرد على أوجه الدفاع الجوهرية وبصورة كافية، إذ أن عدم الرد على أوجه الدفاع أو الرد بصورة غير كافية، قد يثير الشك فى الحكم والأسلوب المنطقى الذى أدى إلى النتيجة أو الحكم، وهذا ما يعكس عيباً فى التسبيب أو قصوراً فى الاستنباط والاستقراء من قبل القاضى[1].

وقد قضى فى ذلك بأنه ” إذا كان المتهم قد دفع تهمة التبديد المسندة إليه بأن العقد محل الدعوى ليس عقد وديعة وإنما هو حرر بصيغتها لكي يكرهه صاحب العقد على دفع دين مدني وطلب إعلان شهود نفي لتأييد هذا الدفاع، ولكن محكمة الدرجة الأولى لم تجبه إلى ما طلب ولم تعن بالرد على طلبه وقضت بإدانته، فتمسك أمام المحكمة الاستئنافية بهذا الدفاع وطلب تحقيقه فلم تجبه هي الأخرى إليه ولم ترد عليه، فهذا منها قصور يوجب نقض الحكم؛ إذ هذا الدفاع لو صح لأدى إلى براءة المتهم، فكان عليها إما أن تحققه وإما أن ترد عليه بما يفنده”[2].

 الفساد فى الاستدلال، يقصد بالفساد فى الاستدلال الخروج على المنطق القانونى والواقع السليم فى الاستنتاج، وهذا ما لايمكن تجنبه إلا من خلال تأويل الأحكام للوقائع الثابتة والمعروضة[3].

ومفاد ذلك أن الاستدلال من قبل القاضى يتسم بالصحة حال عدم اتسامه بالقصور، وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال أسباب الحكم، إذ تعكس مدى سلامة استنباط القاضى للنتائج والحكم المنتهى إليه[4].

ويتسم الاستدلال بالفساد فى عدة حالات، تتمثل فى[5]:

1-الاستناد إلى أدلة غير مقبولة.

2-التناقض فى العناصر الواقعية.

3-عدم الفهم للعناصر الواقعية.

4-عدم اللزوم المنطقى للنتيجة.

وهدياً على ذلك فإن الاستنباط وصولاً إلى نتيجة نهائية يشوبه العوار فى الوسيلة المنطقية أو فى الاستدلال، وذلك حال تحقق حالة من هذه الحالات.

فمن جهة الاستناد إلى أدلة غير مقبولة فيتحقق ذلك حال تأسيس الحكم على أدلة باطلة، كالتى تستخلص من إجراءات باطلة أو من دليل غير مشروع، وذلك كالأدلة المستنبطة من تفتيش باطل أو استجواب اتسم بالبطلان[1].

وقد قضى فى ذلك بأنه “لما كان من المقرر أن كل ما يشترط لصحة التفتيش الذي تجريه النيابة أو تأذن في إجرائه هو أن يكون رجل الضبط القضائي قد علم من تحرياته واستدلالاته أن جريمة معينة – جناية أو جنحة – قد وقعت من شخص معين وأن تكون هناك من الدلائل والأمارات الكافية والشبهات المقبولة ضد هذا الشخص بقدر يبرر تعرض التفتيش لحريته أو لحرمة مسكنه في سبيل كشف مبلغ اتصاله بتلك الجريمة، ولما كانت الواقعة كما هي ثابتة في محضر التحريات التي صدر الإذن بناء عليها – على ما نقله الحكم عنها – تفيد أن التحريات دلت على أن المتهم يتجر في المواد المخدرة، وكان الاتجار في تلك المواد لا يعدو أن يكون حيازة مصحوبة بقصد الاتجار فهو في مدلوله القانوني ينطوي على عنصر الحيازة إلى جانب دلالته الظاهرة فيها، فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى بأن إذن التفتيش قد صدر عن جريمة مستقبلة لم يثبت وقوعها يكون قد أخطأ في تطبيق القانون فضلاً عن فساد استدلاله بما يوجب نقضه. ولما كان هذا الخطأ قد حجب المحكمة عن تناول موضوع الدعوى وتقدير أدلتها، فإنه يتعين أن يكون النقض مقروناً بالإعادة”[2].

ويتجلى فساد الاستدلال بصورة واضحة فى هذه الحالة حال الاستناد إلى أدلة غير صالحة للاقتناع بها، إذ أن القانون لا يستلزم أن تكون الأدلة مباشرة، بل يمكن أن تكون غير مباشرة أى تستنبط من أحداث وقائع أخرى، بحيث تؤدى إلى النتيجة بصورة منطقية[1].

وتحقيقاً لذلك فإن القرائن القضائية لا يمكن الاستناد إليها إلا إذا اتسمت بالتأكيد، أى لا افتراض فيها، وقد قضى بأن “من المقرر أن مجرد التأخير في عرض محضر الاستدلالات المحرر بمعرفة الضابط الذي قبض على المتهم في حالة التلبس بالجريمة لا يدل بذاته على معنى معين ولا يمنع المحكمة من الأخذ بما ورد به وأقوال محررة من أدلة منتجة في الدعوى ما دامت قد اطمأنت إليها، كما لا جناح عليها في أخذها برواية منقولة عن شهودها إذا آنست الصدق فيها واقتنعت بصدورها عمن نقلت عنه، وكذلك تعويلها في تكوين عقيدتها على ما جاء بتحريات الشرطة باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة[2].

 وبالإضافة إلى ذلك فإن فساد الاستدلال يتحقق حال عدم قدرة المحكمة على فهم عناصر الدعوى، ويعود ذلك إلى أن عدم الفهم يؤدى إلى عوار فى الاستنباط والاستنتاج ومن ثم الاستدلال.

فالقاضى يلتزم بتوضيح وقائع الدعوى وأدلتها بصورة واضحة لا لبس فيها، بحيث تعكس منطقه فى تكوين عقيدته، إذ حال عرض الوقائع بصورة مبهمة وغامضة فإن ذلك يدل على فهم خاطئ للوقائع ومن ثم الانتهاء باستنباط معيب، وهذا ما يستوجب نقض الحكم[3].

وقد قضت محكمة النقض بأنه ” لما كان الحكم لم يبين مؤدى أقوال المتهمين الأول والثاني والرابع عشر والخامس عشر وأقوال الشهود “…”، “…” و”… ” الذين تساند إلى أقوالهم في إدانة الطاعن، كما لم

يستظهر الحكم توافر عناصر اشتراك الطاعن في ارتكاب جريمة التزوير أو التهريب القائم عليها اكتفاء بما ورد عن ذلك في التحريات والتي لا تصلح بمفردها كدليل إثبات”[1].

واستكمالاً لذلك فإن الفساد يتحقق أيضاً حال وجود تناقض بين الوقائع المعروضة، إذ يلتزم القاضى حال استقرائه الوقائع وعرضها أن يزيل ما بينها من تناقض، وذلك فى سبيل إقامة دليل قوى لا يتصف بالضعف[2].

وقضى فى ذلك بأنه ” لما كان التناقض بين تحريات المباحث وأقوال الضابط في خصوص تحديد تاريخ الواقعة والقضايا الجنائيـة التي أسندهـا الأخيـر للطاعـن والتي لا سنـد لها من صحيفة الحالة الجنائية ـ بفرض حصوله ـ لا يعيب الحكم ما دام قد استخلص الإدانة منهما استخلاصاً سائغاً لا تناقض فيه”[3].

كما أن الفساد فى الاستدلال يتحقق حال وجود تناقض بين ما أبدته المحكمة من أسباب وما نطقت به فى حكمها، ويرجع ذلك إلى أن التسبيب يعد الوسيلة لتبيان مدى سلامة العمل القضائى من عدمه، من استنباط واستنتاج واستخلاص للنتائج الصحيحة، وفقاً لمنهج منطقى محدد وسليم[4].

وقد قضت محكمة النقض فى ذلك بأن “من المقرر أن لمحكمة الموضوع أن تعول في قضائها على إقرار المتهم بارتكابه الجريمة ولو كان وارداً في محضر الشرطة متى اطمأنت إلى صدقه ومطابقته للحقيقة والواقع ـ كما هو الحال في الدعوى المطروحة ـ وكان لا يعيب الحكم ولا يقدح في سلامته خطؤه في تسمية إقرار المتهم اعترافاً طالما أن هذا الإقرار قد تضمن من الدلائل ما يعزز الأدلة الأخرى وما دامت المحكمة لم

ترتب على هذا الإقرار وحده الأثر القانوني للاعتراف وهو الاكتفاء به والحكم على الطاعن بغير سماع الشهود، فإن منعى المحكوم عليه التاسع في هذا الشأن يكون غير سديد”[1].

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن مراقبة محكمة النقض للاستدلال من قبل محكمة الموضوع لا يعد خارج نطاق اختصاصها، إذ لا يعكس تدخلاً فى الموضوع، فقواعد المنطق القضائى تندمج مع القواعد القانونية بحيث تعد كياناً واحداً ووحدة واحدة فى التطبيق لا يجوز تجزئتهما، وهذا ما يعكس تطبيقاً نموذجياً للمنطق القضائى فى الأحكام[2].

وهدياً على ذلك نجد العديد من الأحكام لمراقبة سلامة استدلال المحكمة، من ذلك ما قضى بأنه ” من المقرر أن الاعتراف في المسائل الجنائية عنصر من عناصر الاستدلال التي تملك محكمة الموضوع كامل الحرية في تقدير صحتها وقيمتها في الإثبات، وأن من سلطتها الأخذ بأقوال المتهم في حق نفسه وفي حق غيره من المتهمين في أي دور من أدوار التحقيق وإن عدل عنها بعد ذلك ما دامت قد اطمأنت إلى صدقها ومطابقتها للحقيقة والواقع”[3].

 كما قضى بأنه ” لما كانت المحكمة وهي في مقام وزن الأدلة التي ارتكنت إليها النيابة العامة في إسناد تهمة قتل …… عمداً إلى المتهمين، ترى أن هذه الواقعة ذاتها قد تنازعتها دعويان تستقل كل منهما عن الأخرى، الأولى هي الدعوى المطروحة ضد كل من المتهمين ….. و….. وثالث سبق القضاء بانقضاء الدعوى الجنائية بوفاته، والثانية تحمل رقم ….. لسنة ….. جنايات مركز ….. ضد كل من المتهمين، ….. و…..، وقد نسجت خيوط الاتهام في كل من هاتين الدعويين من اعترافات المتهمين مؤيدة بتحريات الشرطة. لما كان ذلك، ولئن كانت الأدلة التي حملت الاتهام في كل من الدعويين متساوية في القوة إلا أنها مضادة في الاتجاه، إذ جاءت في أخراهما ناسخة لما ابتنيت عليه أولاهما، وهوت بها في مكان سحيق تبوأت فيه مباوئ الكذب الذي بات مبدؤها ومنتهاها. لما كان ذلك، وكان دفاع المتهمين الماثلين قد قام على بطلان الاعتراف المعزو إليهما لصدوره وليد إكراه، وكان من المقرر أن الاعتراف في المسائل الجنائية من عناصر الاستدلال التي تملك المحكمة كامل الحرية في تقدير صحتها وقيمتها في الإثبات، ولها ألا تعول عليه ولو كان صادقاً متى كان وليد إكراه كائناً ما كان قدره أو تراءى لها أنه مخالف للحقيقة والواقع، وكانت المحكمة تطمئن إلى هذا البطلان لما تكشف عنه الأوراق من القبض على المتهمين وحجزهما بغير أمر من السلطات ما يزيد على الشهر، أخذاً بأقوالهما المؤيدة بالبرقيتين المرسلتين إلى كل من وزير الداخلية والنائب العام في تاريخ سابق على تحرير محضر ضبطهما، الأولى مؤرخة ….. والثانية مؤرخة ….. بما تحملاه من استغاثة والد المتهم ….. من القبض على ابنه المذكور وحجزه بدون وجه حق، وكذا من الإكراه الذي لا تجد المحكمة بداً من التسليم به بعد قعود المحقق عن تحقيقه، فضلاً عما تراءى للمحكمة من مخالفة هذا الاعتراف للحقيقة والواقع سيما وقد اعترف متهمان آخران في الجناية رقم ….. لسنة ….. مركز ….. باقترافهما ذات الجريمة وضبط دراجة المجني عليه البخارية – المسروقة – بإرشاد أولهما، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه من المقرر أن التحريات لا تصلح وحدها لأن تكون دليلاً بذاته أو قرينة بعينها على الواقعة المراد إثباتها، وكانت المحكمة ترى في التحريات التي أجراها كل من المقدم ….. والرائد ….. ما يجافي حقيقة الواقع على ما شهد به اللواء ….. في الجناية رقم ….. لسنة ….. مركز ….. بعدم صحة هذه التحريات، وما اعترف به متهمان آخران باقترافهما ذات الواقعة التي حررت بشأنها تلك التحريات، الأمر الذي ترى معه المحكمة إطراحها وعدم التعويل عليها في مقام الإثبات. لما كان ذلك، وقد أهدرت الأدلة التي ساقتها النيابة العامة للتدليل على ثبوت واقعة قتل المجني عليه ….. في حق المتهمين ….. و….. وقد خلت أوراق الدعوى من دليل آخر على إسناد جرائم القتل وإحراز السلاح والسرقة في حقهما، فإنه يتعين القضاء ببراءتهما مما أسند إليهما”[1].

ومما سبق كله يمكن القول أن القاضى يقوم باستنباط الوقائع الصحيحة من كافة الأدلة فى سبيل تكوين عقيدته، وهنا لا يكتفى بالاستدلال المنطقى للمقدمات التى يؤسس عليها اقتناعه، إنما يجب عليه ربط هذه المقدمات بما توصل إليه من نتائج أو منطوق الحكم، وذلك بناءً على قواعد منطقية سليمة[1].

فمفاد ذلك أن أصول الاستدلال السليم تستلزم أن يؤسس الحكم على دليل يرتب النتيجة التى توصل إليها، وذلك دون تعسف أو تناقض لأحكام العقل والمنطق[2].

وقد قضى بناءً على ذلك بأن استنتاج ظرف سبق الإصرار من الوقائع المعروضة أمر موضوعي من شأن محكمة الموضوع وحدها، ولا رقابة عليها في ذلك لمحكمة النقض ما دامت الأدلة والقرائن التي استندت هي إليها تنتج عقلاً ما استخلصته منها”[3].

[1] أ.عبد الرزاق حمادة، فساد الاستدلال وأثره فى الحكم الجنائى، مجله المحامى، السنة السابعة، 1984، أعداد يناير وفبراير ومارس، ص 157.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 217.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 217 وما بعدها؛ د.أحمد أبو الوفا، تسبيب الأحكام، المرجع السابق، ص 20.

[1] [الطعن رقم 781 – لسنة 49 ق – تاريخ الجلسة 6 / 12 / 1979 – مكتب فني 30 رقم الجزء 1 –  رقم الصفحة 902 ] – [النقض والإحالة للدعوى المدنية].

[1] أ.عبد الرزاق حمادة، المرجع السابق، ص 158.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 221.

[1] [الطعن رقم 84352 – تاريخ الجلسة 1 / 10 / 2006 ] – [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.فايز محمد حسين، المرجع السابق، ص 368 وما بعدها.

[1] [الطعن رقم 4683، لسنة 54 ق، تاريخ الجلسة 6/6/1985، مكتب فني 36 رقم الجزء 1،  رقم الصفحة 762 ]، [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 225 وما بعدها.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 226 وما بعدها.

[1] [الطعن رقم 4773 – تاريخ الجلسة 14 / 6 / 2007 ] – [رفض الطعن].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 226 وما بعدها.

[1] [الطعن رقم 24123 – تاريخ الجلسة 20 / 2 / 2007 ] – [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 226 وما بعدها.

[1] [الطعن رقم 1136 – لسنة 20 ق – تاريخ الجلسة 28 / 11 / 1950 – مكتب فني 2 رقم الجزء 1 –  رقم الصفحة 316 ] – [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.رءوف عبيد، ضوابط تسبيب الأحكام، د.ن، 1956، ص 261؛ أ. عبد الرزاق حمادة، المرجع السابق، ص 155.

[1] د.فايز محمد حسين، المنطق القانونى، المرجع السابق، ص 371.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 231 وما بعدها؛ د.أحمد أبو الوفا، نظرية الأحكام، المرجع السابق، ص 277؛ د. محمود السقا، المنطق القانونى، المرجع السابق، ص 265 وما بعدها.

Rigaux(f): La nature du contrôle de la cour cassation, Bruxelles, 1966, p.307 et ss.

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 232؛ د.فايز محمد حسين، المرجع السابق، ص 372.

[1] [الطعن رقم 20952 – لسنة 64 ق – تاريخ الجلسة 7 / 12 / 2003 – مكتب فني 54 رقم الصفحة 1171 ] – [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 232.

[1] [الطعن رقم 30157 – لسنة 59 ق – تاريخ الجلسة 26 / 9 / 1999 – مكتب فني 50 رقم الجزء 1 –  رقم الصفحة 473 ] – [رفض الطعن].

[1] د. أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 234.

[1] [الطعن رقم 42630 – لسنة 74 ق – تاريخ الجلسة 7 / 6 / 2005 – مكتب فني 56 رقم الصفحة 356 ] – [النقض والإحالة للدعوى الجنائية].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 235؛ د.فايز محمد حسين، المرجع السابق، ص 372.

[1] [الطعن رقم 11266 – لسنة 64 ق – تاريخ الجلسة 14 / 4 / 2003 – مكتب فني 54 رقم الصفحة 530 ] – [رفض الطعن].

[1] د.أحمد أبو الوفا، نظرية الأحكام، المرجع السابق، ص 277؛ د.فايز محمد حسين، المرجع السابق، ص 372.

[1] [الطعن رقم 38328 – لسنة 73 ق – تاريخ الجلسة 1 / 4 / 2004 – مكتب فني 55 رقم الصفحة 287 ] – [رفض الطعن].

[1] د.أحمد فتحى سرور، المرجع السابق، ص 241؛ د. محمود السقا، المنطق القانونى، المرجع السابق، ص 291.

[1] [الطعن رقم 27735 – لسنة 72 ق – تاريخ الجلسة 8 / 12 / 2003 – مكتب فني 54 رقم الصفحة 1184 ] – [رفض الطعن].

[1] [الطعن رقم 79257 – لسنة 75 ق – تاريخ الجلسة 20 / 12 / 2006 – مكتب فني 57 رقم الصفحة 1005 ] – [النقض والتصحيح  للدعوى الجنائية].

[1] د.على حمودة، المرجع السابق، ص 19 وما بعدها.

[1] د.محمود السقا، المرجع السابق، ص 292.

[1] [الطعن رقم 1005 – لسنة 4 ق – تاريخ الجلسة 23 / 4 / 1934 – مكتب فني 3 ع –  رقم الجزء 1 –  رقم الصفحة 312 ] – [رفض الطعن]